يقول المصنف: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله] أي: أنهم بينوا كل شيء كما أمرهم الله، على وجه لا يسع أحداً من قومهم أن يجهله، ممن سمع منهم، فقد بينوه بياناً شافياً كما قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ))[إبراهيم:4] أي: بلغتهم وذلك ليبين لهم ويقيم عليهم الحجة، ويحاجهم حتى لا يهلك من هلك إلا عن بينة، ولذلك اختص الله الرسل صلوات الله وسلامه عليهم بأعظم البيان؛ فقد جاءوا من عند الله سبحانه وتعالى بالحجة القوية، والبرهان الجلي، والآيات والمعجزات التي لا يسع الخلق إلا التصديق بها، ولا يستطيعون أن يكذبوها أبداً، ومن رأى الأنبياء صلوات الله عليهم وسمع منهم، كان حاله كحال الذي جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فلما رآه قال: والله ما هذا بوجه كذاب.
فالمجرم ترى في وجهه الإجرام، وأهل البدعة تسمع البدعة في كلامهم، ومن أعطاه الله البصيرة والنور، فإنه حين يسمع البدعة يعلم أن هذه بدعة؛ وإن كان لا يستطيع أن يرد على صاحب البدعة، لكنه يعلم أنه مبتدع، وأن كلامه باطل، بخلاف غيره فقد يصدق هذا المبتدع ويتبعه، لكونه أعمى البصيرة.
إن الله تعالى فطر النفوس على معرفة الحق وعلى قبوله، ولذلك فإنه لا يسع أحداً ممن رأى الرسل وشاهد آياتهم إلا أن يسلم ويستسلم ويصدق بها. وهذا الطفيل بن عمرو الدوسي قالت له قريش: ضع في أذنيك القطن حتى لا تسمع كلام من يسفه الأحلام ويسب الآلهة، وكان الطفيل سيد قومه وزعيم قبيلة عظيمة من العرب، قبيلة الحكماء الذين يحكمون في أسواق العرب بين الناس، فمعنى ذلك أنهم يسمعون من الأطراف والخصوم، ثم يحكمون بينهم، فقال: لماذا لا أستمع لهذا الرجل؛ فإن كان حقاً قبلته، وإن كان غير ذلك رددته؟!
فلما سمع منه آمن ؛ لأن الحق واضح جلي، فلا يسع أحداً ممن سمع منهم صلوات الله وسلامه عليهم أن يجهله أو أن يرده؛ لأنهم أعطوا البلاغة الشافية، والحجج والبينة، وهذا من فَضْلِ الله سبحانه وتعالى ورحمته بعباده، حيث أيد الرسل بذلك، ليقطع دابر الشبهات والشكوك، ولتقام الحجة على الناس، فعندها لن يعاندهم إلا المكابر، كما قال الله سبحانه وتعالى على لسان فرعون: ((مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ))[غافر:29] ((وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى))[طه:79].
فإذاً: هؤلاء المكابرون ليس عندهم حجة إلا المجادلة بالباطل، فإذا لم يصدق الناس باطلهم، فالجواب عندهم هو: السجن أو القتل أو الصلب في جذوع النخل كما فعل إمامهم فرعون، وذلك لأنهم لا يملكون الحجة والبرهان.
يقول: [وأنهم بينوه بياناً لا يسع أحداً ممن أرسلوا إليه جهله، ولا يحل له خلافه] قال تعالى: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64]
هل يبعثهم الله إلينا لنأخذ أقوالهم ونعرضها على العقل، فما قَبِله العقل أخذناه وما لا يقبله رددناه؟!
إذا كان التحاكم إلى مثل هذا، فما معنى أنه رسول؟! إن الله تعالى يقول: ((وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ))[النساء:64] فطاعتهم حق واجب؛ لأنهم يبلغون عن الله سبحانه وتعالى، فلا يعذر أحد بجهله لوضوح الحجة، ولا يحل لأحد أن يخالفه، لوجوب الاتباع كما أمر الله سبحانه وتعالى.